دروس (كورونا)

13/04/2020 19:13:21



مفيد الحالمي


- لقد جاءت جائحة فيروس (كورونا) بالعديد من الدروس العظيمة ذات الأبعاد الرهيبة والدلالات المؤثرة على الفكر الإنساني والحياة البشرية .. أو هكذا ينبغي أن تكون.

- فعلى سبيل التوضيح: لطالما أكدنا أن قضية حماية البيئة ليست سلوك ترفي كما يذهب البعض .. بل سلوك حتمي ضروري لاستمرار الحياة وقبل ذلك لعيشها في بيئة صحية ونمط أنموذجي سليم وخال من المخاطر والوباءات والكوارث.

لكنهم لم يفقهوا قولنا الذي واجهنا صعوبة شديدة في استيعاب الناس له .. حتى جاءت جائحة فيروس كورونا التي لم يسبق لها مثيل والتي لم تخطر على بال بشر لتؤكد بما لا يدع مجالا للشك صحة ما كنا نذهب إليه.

¤ ومما كنا نذهب إليه وكنا نتهم بالمغالاة والهرطق هو أن المخاطر البيئية تهدد الحياة البشرية جمعاء بالفناء الكامل .. إذ قد يقول قائل أن الحياة بيد الله عزوجل .. وهذا صحيح لكن الله عزوجل قال {لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.

- نعم بيد الله عزوجل أيها الإنسان .. ولأنها كذلك ليس من حقك أن تعبث بها أنى شئت وكيفما شئت .. بل يجب أن تتبع أوامره ونواهيه وتعيشها وفق ما حدد هو لا ما تحدده أنت.

- ومما ينطوي عليه الدرس هو أن الله عزوجل قادر على أن ينهيك أنت وحياتك في حال تقديرك لها.
كما هو (جل جلاله) قادر على الحفاظ على الحياة بأن يقضي بفناءك دون فناءها في حال عدم محافظتك عليها بسبب تطاولك وتعديك ومخالفتك لأوامره ونواهيه وضوابطه.
وبهذا الصدد فقد سن الله للبشر قانون عادل مفاده:
إذا حافظت على الحياة حافظت عليك .. وإذا لم لم تحافظ عليها لم تحافظ عليك.
إذا احييت الحياة أحيتك .. وإذا أمتها أماتتك.
ثم ترك لك حرية الاختيار.

¤ ومما كنا نذهب إليه هو أن الملف البيئي أهم من الملف الأمني .. وبالمناسبة في محاضرة جامعية قلت في سياق محاضرتي أن المخاطر البيئية كشرت عن أنيابها بشكل غير مسبوق لدرجة أن مجلس الأمن الدولي اضطر لوضع ملف الحروب جانبا ومناقشة الملف البيئي.

فسألني أحد الطلبة:
- كيف يكون ذلك؟؟.

فقلت له:
- ذلك لأن كارثة بيئية واحدة كفيلة بالقضاء على طرفي الحرب أو الصراع.
ثم ضربت له مثلا:
- هب أن ثمة شخصان يتعاركان على منزل يقع على شاطىء البحر وبغتة اندلعت كارثة بيئية حيث هاج البحر وفوجىء الجميع بتسونامي (مد بحري) قادم نحو الشاطىء واليابسة ليجرف كل ما عليها .. عندئذ ما من شك أن التسونامي سيطغى وسيقتلع كل شيء أمامه بما في ذلك الشخصان المتشاجران. بل ومعهما محل الخلاف المتنازع عليه.

كان هذا المثال كفيلا بضمان استيعابه .. فانتقلت من المثال إلى السؤال الذي ضرب من أجله المثال حيث سألته:
- و الآن هل تبين لك أن الملف البيئي أهم من الملف الحربي أو الأمني .. لأن الكارثة البيئية كفيلة بجرف جميع المتصارعين مع ما يتصارعون عليه.

¤ من هذا المنطلق وبناء على هذا الأساس.. يجب أن يتحد الجميع إزاء قضايا البيئة .. وكورونا خير مثال .. بل وما (كورونا) إلا مثال جديد على صحة ما كنا ومازلنا نذهب إليه.

ولذا لطالما كررنا أن البشر قد يختلفون في كل شيء .. في السياسة، في الثقافة، في الرياضة، في الحزبية، في المذهبية، في الأيدولوجيا، إلخ .. إلا إزاء قضية نبيلة كحماية البيئة لا يملكون إلا أن يتفقوا.
ذلك أن البيئة هي القاسم المشترك بين قاطبة أبناء المعمورة مهما اختلفت انتماءاتهم ومشاربهم وألوانهم.

¤ نعم لطالما كررنا لكننا كنا نواجه صعوبة بالغة في توعية الناس .. حتى جاء (كورونا) ونجح في ما فشلنا فيه فأوصل في لحظات ما عجزنا عن أيصاله في سنوات .. وقدم للبشرية دروسا بليغة للغاية .. منها، أي الدروس، ما هو بيئي محض ومنها ما هو ديني أو عام.

أما الدروس البيئية. فضلا عما تقدم .. لما كانت القضية البيئية، وجماهيرها، تؤكد أن الحياة البرية هي البيئة الصحية التي يجب أن تكتنف الإنسان .. فإن خلو شوارع المدن المأهولة بالسكان من البشر بسبب الحجر الصحي المفروض عليهم خشية تفشي الوباء قد حدا بالحيوانات إلى غزو الشوارع وعودتها لتصبح المدن مأهولة بالحيوانات في مشهد غير مألوف بيد أنه مشهد صحيح يمثل شاهد قوي على أكثر من دلالة أبرزها أن الأصل في الحياة هي البيئية الطبيعية وليس الثقافة الأسمنتية التي فرضها الإنسان قسرا ..
وأن الإنسان هو عدو بيئته .. 
وأن البيئة ليس بالضرورة أن لا تتسع أما للإنسان فحسب وإما للحيوان فحسب في حال غياب الإنسان الطارد للكائنات الحية الأخرى بغبائه .. بل أن البيئة تتسع لنا جميعا .. للبشر وللحيوان وبقية الكائنات الحية معا.
بل أن وجود كافة الكائنات الحية سواء أكانت بشر أم شجر أم حجر أم حيوان هام وضروري ومعزز لحياة الإنسان نفسه.
وهي ليست طاردة أو مقصية أو ملغية لبعض بل مكملة لبعض ضمن منظومة التوازن البيئي.

- وهنا نكتشف أن الإنسان قد فشل في التعايش مع الحيوانات ومع بقية مكونات بيئته .. قبل أن يفشل البشر في التعايش فيما بينهم البين لينتج عن ذلك الجروب كدرجة متطورة من اعتداء الإنسان على بيئته واعضاءها الذين تربطه بها رابطة تكاملية فحولها بغبائه إلى رابطة اقصائيه.

¤ وايماء إلى التوازن البيئي الذي هو جوهر القضية البيئية .. من اللافت أن سبب جائحة كورونا هو سبب بيئي يدخل ضمن الإخلال بالتوازن البيئي حيث قيل أن شخص صيني التهم خفاش فنتج عن ذلك السلوك الشاذ هذا الفيروس الذي أرعب العالم برمته دونما استثناء.

يقال أن هذا الشخص الذي أكل الخفاش لم يجد قيمة سندوتش دجاج .. فأصبح العالم كله يدفع ثمن هذا السندوتش الذي بات أغلى سندوتش في التاريخ بسبب ضخامة الفاتورة الصحية التي كلفها ومازال العالم يتكبد تكاليف هذا الوباء حتى كتابة هذه السطور.

- هذا من حيث السبب .. أما من حيث إجراءات الوقاية.
لما كانت أهم إجراءات الحماية من فيروس كورونا هو الامتناع عن المصافحة .. فإن هذا الاجراء ينطوي على بعدين أو درسين .. الأول: بيئي مفاده أن من خصائص القضية البيئية أن ما يجب فيها يتمثل في امتناع عن فعل أكثر مما هو قيام بفعل.

وبالاشارة إلى البعد البيئي المتمثل في الامتناع عن الفعل .. لقد كان الأدب البيئي سباق إلى اكتشاف هذه الجزئية ولاسيما الامتناع عن المصافحة التي بات ينادي بها العالم أجمع .. فمن الجدير بالذكر أن أول من تنبأ بالكورونا وبالاجراء اللازم حياله هو عاشق اليمن الشاعر العربي الكبير سليمان العيسى حينما قال قبل سنون عديدة:
- "سَلامٌ عليكُم، والسَّلامُ تَحِيَّةٌ 🖐
                                      ولَم أَرَ أَزكَى مِن سَــــلامِ التَّحِيَّةِ"

- أما الدرس الآخر الذي حمله لنا فيروس كورونا فهو درس ديني مفاده تأديب آلهي وعقوبة دنيوية من المعبود عزوجل لعباده لأنهم كانوا (ومازالوا) قد ذهبوا بعيدا في الاختلاط خلافا لأوامره ونواهيه.
ولكأنه يقول بل هو كذلك فعلا .. أنه إذا لم تمتنعوا عن الاختلاط بين الجنسين فسأجبركم على عدم الاختلاط حتى على مستوى الجنس الواحد.
وإذا لم ترتدوا النقاب الذي فرضته عليكم طوعا .. فسترتدونه قسرا.
وإذا لم تقر في البيوت من يجب أن تقر في البيوت .. فسيقر فيها من يجب ومن لا يجب .. أي النساء والرجال (وهذا ما حدث).
إذا لم تلتزموا بما أمرتكم به بمحض إرادتكم دون مخاطر وعلى نحو تثابون عليه .. فستفعلون ذلك وأنتم مسلوبي الإرادة محفوفين بمخاطر لا ترحم ودون أن تكونوا مأجورين على ما فعلتم.

- وهنا أعلم أن البعض لن يروقهم الاعتراف بالبعد الديني الذي أشرت إليه .. لكن كورونا كفيل بأن يجعلهم يروق لهم .. ذلك أنهم (ناس تخاف ما تختشيش). وكما قال المثل (اللي ما تديه حبال المودة تديه حبال المصائب).

وإذا كان الغرب الذي لا يسلم بمسلماتنا الإلهية قد أجبرهم الفيروس أن يسلموا بمسلماتنا .. فركع من لا يركع، 
وسجد من لا يسجد، 
واستنجد بالله من كان يلحد به ليل نهار، واعترف بالقدرة الإلهية من كان قد ذهب به غروره كل مذهب.

¤ وهكذا لقد جاء فيروس كورونا لكي يعيد الناس إلى جادة الصواب .. 
إلى سبيل الرشاد .. 
إلى اللجوء إلى خالق المخلوقات ومالك الملوك وصاحب الحول والقوة وحده لا شريك له.

¤ كما جاء فيروس كورونا ليبين البون الشاسع بين قدرة الله وحده .. وقدرة البشر أجمعين.
الذين يعجزون عجزا تاما عن خلق جناح ذبابة أو عن التصدي لفيروس صغير رغم أنه لا يرى بالعين المجردة إلا أن الدول اضطرت أن تخرج جيوشها عبثا لمواجهته.

¤ كما جاء فيروس كورونا ليعيد ترتيب الأوراق ويعيد ترتيب الأشياء حسب مواقعها الصحيحة .. أقصد أنه جاء ليؤكد أن الطهارة وأصول الدين ليست هي المسائل الكمالية الهامشية وما دونها هو الرئيس والضروري .. بل على العكس هي الرئيس وما دونها هو الكمالي و الترفي .. أو قيمة مضافة في أحسن الأحوال.

- وهنا وبالمناسبة.. أي بمناسبة التداعيات المهولة التي جاء بها وباء كورونا الذي هدد العالم بالفناء والحلول الوقائية التي بات العالم مجبرا على الالتزام بها .. من الطريف ومن الجميل في آن هو قول قائل:
- "أين من صدعوا رؤوسنا بعبارة أن (الغرب صعدوا القمر ونحن مازلنا نناقش الطهارة)؟! ..
ما بالهم تركوا القمر وعادوا لمناقشة الطهارة".

والحقيقة أن هذا القول ينطوي على دلالة بالغة التعبير أو تعبير بالغ الدلالة .. ذلك أن غرور الإنسان كان قد ذهب به بعيدا حينما أعتقد أنه قدرته قد باتت خارقة إلى الحد الذي حدا به إلى الغرور والتعالي على أصول الحياة التي علمنا أياها الله عزوجل والزمنا بالحفاظ عليها.

لكن جاء فيروس كورونا ليثبت أن القدرة المطلقة هي لله وحده وأن قدرة البشر مهما بلغت من التطور والتقدم الذي يعتقده الإنسان.. إلا أن البشرية جمعاء بكل إنجازاتها واعجازاتها واختراعاتها تغدو في يوم وليلة عاجزة أمام فيروس ضئيل يقضي على الأحياء رغم أنه فيروس (ميت)!!.

- جاء فيروس كورونا ليثبت أن الحول والقوة بيد المولى عزوجل فحسب .. فحسب .. فحسب.

¤ وكذا جاء فيروس كورونا ليعلمنا درس هام للغااااااية نأمل إدراكه وهو أن ما علمنا الله عزوجل من أصول وأساسيات، مهما بدت بسيطة وعادية أو هكذا نعتقد، والزمنا وجوبا بالحفاظ عليها هي الأصل الحامي والسياج المنيع الواقي لنا من مخاطر الحياة وويلاتها .. وبالتالي هي أهم بكثير مما ننتجه نحن البشر من علوم وتطورات ومنتجات إنسانية تصيبنا بالغرور الأجوف الذي سرعان ما يفضحه فيروس بسيط لا حجم له ولا وزن.
لكأن الله بل هو كذلك جل جلاله يقول لنا أن هذه الأصول هي الأساسيات التي ما إن حافظتم عليها حافظت عليكم وما إن فرطتم بها فرطت بكم.

¤ ختاما:
ولما كان الموت هو الحقيقة الأبرز في الحياة {لو أنهم يفقهون} .. 
ولما كان الموت هوالمهذب الرئيس لسلوكيات الإنسان والوازع الأهم .. 
ولما كان عدم حضور الموت، كحقيقة لا مناص منها،  في وعي غالبية البشر هو سبب جل صراعاتهم ومشاكلهم وظلمهم لبعضهم البعض سواء كدول أو كأفراد.
فإن هذا الفيروس الذي لا يعترف بالحدود الجغرافية ويهدد الجميع بالفناء التام وهذا الوباء العالمي الحامل للموت الزعاف الذي ينتشر بين البشر كانتشار النار في الهشيم .. قد جاء ليذكر الجميع بالموت ليس على سبيل الوعظ فحسب بل على سبيل الخطر المحدق بالجميع.
بيد أن هذا التذكير لا يجب أن يكون محصورا بالسلوك القسري .. بل يجب أن يكون سلوكا طوعيا يحدو بنا إلى تهذيب سلوكياتنا وتصويب أخطائنا وتوخي الظلم وتفادي كل ما يجب تفاديه من الذنوب والخطايا والآثام .. لأن الموت هو ذاته الموت الذي لا مناص منه سواء أكان بسبب كورونا أو بسبب آخر.
- "فمن لم يمت ب(كورونا) مات بغيره 
                                      تعددت الأسباب والموت واحد".

فهل من متعظ؟؟؟.

تابعونا علي فيس بوك