يبدو أن الصورة قاتمة بالنسبة إلى مؤشرات نمو الاقتصاد العالمي، بناء على ما أظهرته بيانات صندوق النقد الدولي التي صدرت أخيرا بصورة شمولية عن آفاق النمو الاقتصادي في مناطق العالم المختلفة. وبنظرة فاحصة للأرقام التي صدرت في هذا التقرير نلاحظ بالفعل الغموض في ظل المتغيرات التي يشهدها العالم من صراعات سياسية، وتداعيات اقتصادية متنوعة، فالنمو الإجمالي الحقيقي بعد أن بلغ 6.1 في المائة في 2021، عاد أدراجه بسرعة ليفقد نصف زخمه، وتصبح التوقعات الأكثر تفاؤلا بأن يصل إلى نحو 3.2 في المائة بنهاية هذا العام، وسيستمر بالنزيف حتى 2023 ليصل إلى مستوى قد يكون أقل من 2.9 في المائة، أي: إن النمو الاقتصادي العالمي سيفقد نحو 52 في المائة بحلول 2024.
لكن هذا المشهد تفاوت بشكل واسع بين مناطق العالم، حيث رصد الصندوق الدولي في تقاريره الحديثة أن اقتصاد آسيا والدول النامية سيتراجع بشكل حاد من قمة 7.3 في المائة في 2021 إلى 0.5 في المائة في 2023، وقد يقع تحت أنياب الكساد العالمي خلال هذا الهبوط الحاد، وفي منطقة اليورو سيتراجع من 5.4 إلى 1.2 في المائة، وفي الولايات المتحدة سيصل إلى 1 في المائة.
ومن هنا، فإن هذا التباطؤ الكبير في النمو الاقتصادي العالمي، له كثير من الأسباب، فهناك الحرب بين روسيا وأوكرانيا التي لا نهاية قريبة لها، إضافة إلى تصاعد التوترات العالمية التي تتحول بسرعة إلى نزاعات مسلحة، ومعظم هذه النزاعات في مناطق كانت وما زالت تعد من أهم مناطق إمداد العالم بالحبوب والمواد الخام الأساسية في كثير من المدخلات الاقتصادية، ومع مشكلات في سلال الإمداد بلا حلول جذرية حتى الآن.
لكن رغم هذا المشهد القاسي تاريخيا، فإن أسعار النفط تعكس المسار الاستثنائي لها وتتجه صعودا مع مؤشرات أداء أفضل من مؤشرات الأسهم الرئيسة، والدولار الأمريكي حتى الآن.
وهذا الاتجاه المعاكس لاتجاهات النمو العالمية يطرح أسئلة علمية صادمة، إذ أثبتت الدراسات طوال عقود أن الطلب على النفط يلقى دعما جيدا ما بقي النمو العالمي إيجابيا، وأن أسعار الخام تميل للهبوط في كل فترات الركود بما يراوح بين 30 و40 في المائة.
وعموما ارتبطت أسعار النفط تاريخيا بالنمو في الاقتصاد العالمي خاصة النمو في آسيا، فقد كانت الأسعار بنحو 20 دولارا خلال تسعينيات القرن الماضي لتعكس بذلك حالة النمو في آسيا، لكن عندما انهارت النمور الآسيوية، فيما يعرف تاريخيا بالأزمة الآسيوية، انهارت الأسعار لتصل إلى عشرة دولارات، في الأعوام التي سبقت الأزمة المالية في 2008 حيث كان النمو في الهند والولايات المتحدة والصين يزيد من الطلب على النفط في العالم، ما تسبب في ارتفاع الأسعار، هذه صورة العلاقة بين النفط والنمو العالمي، التي يمكن تفسيرها بشكل منطقي. لكن الحالة الآن مختلفة، فرغم تراجع النمو بشكل حاد في معظم مناطق العالم، خاصة آسيا، إلا أن أسعار النفط تتجه للصعود، حيث أظهرت بيانات أن العقود الآجلة لخام برنت والخام الأمريكي مرتفعة نحو 30 في المائة في حين أن المؤشر العالمي للأسهم الذي يشمل كل الدول منخفض نحو 15 في المائة.
إن هذه الصورة المضطربة والمختلفة تعكس حالة الاقتصاد العالمي المضطربة فعلا، فالعالم يعيش تناقضات تتفاعل مع بعضها بعضا بشكل لم يسبق له مثيل، فبينما هناك تراجع في النمو العالمي، هناك عقوبات على روسيا تقيد إمدادات الخام، ما أدى إلى شح في المعروض، فالاقتصاد العالمي رغم تراجعه الحاد، إلا أن التراجع في الإمدادات هو أكبر مما يجب، ما أوجد حالة من عدم التوازن الاقتصادي بين العرض والطلب، فالعلاقة بين النمو الاقتصادي وأسعار النفط هي علاقة كامنة بين العرض والطلب، ففي الظروف العادية يجب أن يتراجع الطلب بشكل متزامن مع تراجع النمو الاقتصادي، ومع بقاء حجم العرض عند مستوياته قبل تراجع النمو الاقتصادي، يصنع حالة من تشبع العرض، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع الأسعار، لكن الحالة الراهنة تفيد بأن التراجع في النمو العالمي يصاحبه تراجع متزامن في العرض العالمي لقيود الإمدادات وقدرات الإنتاج، ما سمح باستقرار الأسعار أو اتجاهها صعودا، فالعلاقة التاريخية ليست بين اتجاه نمو الاقتصاد العالمي والأسعار، ولا توصف بأنها طردية أو عكسية وفقا لذلك، بل علاقة بين كميات، فكميات الطلب عند أي مستوى من مستويات النمو الاقتصادي يجب أن تتوازن مع كميات العرض عند المستوى نفسه، وهذا ما يحدث اليوم فعليا فمخزونات النفط في العالم منخفضة، وقد تراجعت في الولايات المتحدة إلى 422.1 مليون برميل، وهذا أكثر من المتوقع، وتزامن ذلك مع تناقص ومشكلات الطاقة الإنتاجية، حيث تظهر بيانات "أوبك +" أن النقص في المعروض بلغ نحو ثلاثة ملايين برميل يوميا في حزيران (يونيو) أو نحو 3 في المائة من الإمدادات العالمية، وهذه العوامل من أهم محركات أسعار النفط.
لو أن هذا التراجع في المخزونات العالمية من النفط والمتزامن مع مشكلات الإنتاج العالمية جاء في ظل انتعاش الطلب العالمي، والنمو الاقتصادي الصاعد لبلغت الأسعار العالمية للنفط مستويات لم يشهدها التاريخ من قبل، لكن التباطؤ الاقتصادي العالمي يقود الأسعار نحو هذه المستويات الحالية، وهذا عموما يقدم دليلا لا شك فيه أن الطلب على الطاقة الأحفورية لم يزل الركيزة الأساسية للطاقة في العالم، وأي مراهنة على غير ذلك طوال العقد الحالي لن تقود إلا إلى التضخم، وانفلات الأسعار وهذا ما حذرت منه السعودية خلال الفترة الماضية، الأمر الذي يعني أنه لا بد من استمرار تدفق الاستثمارات لهذا القطاع قبل أن يعاود الاقتصاد العالمي اتجاهات النمو.
author:
كلمة الاقتصادية
Image:
Image: